فصل: تفسير الآيات رقم (7- 10)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 59‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ‏(‏56‏)‏ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ‏(‏57‏)‏ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ‏(‏58‏)‏ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ‏(‏59‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ‏}‏ يعني فرعون، ‏{‏آيَاتِنَا كُلَّهَا‏}‏ يعني‏:‏ الآيات التسع التي أعطاها الله موسى، ‏{‏فَكَذَّبَ‏}‏ بها وزعم أنها سحر، ‏{‏وَأَبَى‏}‏ أن يسلم‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ يعني فرعون ‏{‏أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا‏}‏ يعني‏:‏ مصر، ‏{‏بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى‏}‏ أي‏:‏ تريد أن تغلب على ديارنا فيكون لك الملك وتخرجنا منها‏.‏ ‏{‏فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا‏}‏ أي‏:‏ فاضرب بيننا أجلا وميقاتا، ‏{‏لا نُخْلِفُهُ‏}‏ قرأ أبو جعفر ‏"‏لا نخلفه‏"‏ بجزم، لا نجاوزه ‏{‏نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى‏}‏ قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة ويعقوب‏:‏ ‏"‏سوى ‏"‏ بضم السين، وقرأ الآخرون بكسرها، وهما لغتان مثل‏:‏ عدى وعدى وطوى وطوى‏.‏

قال مقاتل وقتادة‏:‏ مكانا عدلا بيننا وبينك‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ نصفا، ومعناه‏:‏ تستوي مسافة الفريقين إليه‏.‏

قال مجاهد‏:‏ منصفا‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يعني سوى هذا المكان‏.‏ ‏{‏قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ‏}‏ قال مجاهد، وقتادة، ومقاتل، والسدي‏:‏ كان يوم عيد لهم، يتزينون فيه، ويجتمعون في كل سنة‏.‏ وقيل‏:‏ هو يوم النيروز‏.‏

وقال ابن عباس وسعيد بن جبير‏:‏ يوم عاشوراء‏.‏

‏{‏وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى‏}‏ أي‏:‏ وقت الضحوة نهارا جهارا، ليكون أبعد من الريبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 63‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ‏(‏60‏)‏ قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ‏(‏61‏)‏ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ‏(‏62‏)‏ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ‏(‏63‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ‏}‏ مكره وحيلته وسحرته، ‏{‏ثُمَّ أَتَى‏}‏ الميعاد‏.‏ ‏{‏قَالَ لَهُمْ مُوسَى‏}‏ يعني‏:‏ للسحرة الذين جمعهم فرعون، وكانوا اثنين وسبعين ساحرا، مع كل واحد حبل وعصا‏.‏

وقيل‏:‏ كانوا أربعمائة‏.‏ وقال كعب‏:‏ كانوا اثني عشر ألفا‏.‏ وقيل أكثر من ذلك‏.‏

‏{‏وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وحفص‏:‏ ‏{‏فَيُسْحِتَكُمْ‏}‏ بضم الياء وكسر الحاء، وقرأ الباقون بفتح الياء والحاء وهما لغتان‏.‏ قال مقاتل والكلبي‏:‏ فيهلككم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ فيستأصلكم، ‏{‏وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى‏}‏ ‏{‏فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ تناظروا وتشاوروا، يعني السحرة في أمر موسى سرا من فرعون‏.‏

قال الكلبي‏:‏ قالوا سرا‏:‏ إن غلبنا موسى اتبعناه‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ لما قال لهم موسى‏:‏ لا تفتروا على الله كذبا، قال بعضهم لبعض‏:‏ ما هذا بقول ساحر‏.‏

‏{‏وَأَسَرُّوا النَّجْوَى‏}‏ أي المناجاة، يكون مصدرا واسما، ثم ‏{‏قَالَوا‏}‏ وأسر بعضهم إلى بعض يتناجون‏:‏ ‏{‏إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ‏}‏ يعني موسى وهارون‏.‏

قرأ ابن كثير وحفص‏:‏ ‏{‏إِنْ‏}‏ بتخفيف النون، ‏{‏هَذَانِ‏}‏ أي ما هذان إلا ساحران، كقوله‏:‏ ‏"‏إن نظنك لمن الكاذبين‏"‏ ‏(‏الشعراء‏:‏ 186‏)‏، أي ما نظنك إلا من الكاذبين، ويشدد ابن كثير النون من ‏"‏هذان‏"‏‏.‏

وقرأ أبو عمرو ‏"‏إن ‏"‏ بتشديد النون ‏"‏ هذين ‏"‏ بالياء على الأصل‏.‏

وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏إن ‏"‏ بتشديد النون، ‏"‏ هذان ‏"‏ بالألف، واختلفوا فيه‏:‏ فروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة‏:‏ أنه خطأ من الكاتب‏.‏

وقال قوم‏:‏ هذه لغة الحارث بن كعب، وخثعم، وكنانة، فإنهم يجعلون الاثنين في الرفع والنصب والخفض بالألف، يقولون‏:‏ أتاني الزيدان ورأيت الزيدان ومررت بالزيدان، فلا يتركون ألف التثنية في شيء منها وكذلك يجعلون كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها ألفا، كما في التثنية، يقولون‏:‏ كسرت يداه وركبت علاه، يعني يديه وعليه‏.‏ وقال شاعرهم‏:‏

تزود مني بين أذناه ضربة *** دعته إلى هابي التراب عقيم

يريد بين أذنيه‏.‏

وقال آخر‏:‏

إن أباها وأبا أباها *** قد بلغا في المجد غايتاها

وقيل‏:‏ تقدير الآية‏:‏ إنه هذان، فحذف الهاء‏.‏

وذهب جماعة إلى أن حرف ‏"‏أن‏"‏ هاهنا، بمعنى نعم، أي نعم هذان روى أن أعرابيا سأل ابن الزبير شيئا فحرمه، فقال‏:‏ لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال ابن الزبير‏:‏ إن وصاحبها، أي نعم‏.‏

وقال الشاعر‏:‏

بكرت عليَّ عواذلي *** يلحينني وألومهنه

ويقلن شيب قد علا *** ك وقد كبرت فقلت إنه

أي‏:‏ نعم‏.‏

‏{‏يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ‏}‏ مصر ‏{‏بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني بسراة قومكم وأشرافكم، يقال‏:‏ هؤلاء طريقة قومهم أي أشرافهم و‏{‏الْمُثْلَى‏}‏ تأنيث ‏"‏الأمثل‏"‏، وهو الأفضل، حديث الشعبي عن علي، قال‏:‏ يصرفان وجوه الناس إليهما‏.‏

قال قتادة‏:‏ طريقتهم المثلى يومئذ بنو إسرائيل كانوا أكثر القوم عددا وأموالا فقال عدو الله‏:‏ يريدان أن يذهبا بهم لأنفسهم‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى‏}‏ أي بسنتكم ودينكم الذي أنتم عليه و‏{‏الْمُثْلَى‏}‏ نعت الطريقة، تقول العرب‏:‏ فلان على الطريقة المثلى، يعني‏:‏ على الهدى المستقيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 67‏]‏

‏{‏فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ‏(‏64‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ‏(‏65‏)‏ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ‏(‏66‏)‏ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ‏(‏67‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ‏}‏ قرأ أبو عمرو‏:‏ ‏"‏ فأجمعوا ‏"‏ بوصل الألف وفتح الميم، من الجمع، أي لا تدعوا شيئا من كيدكم إلا جئتم به، بدليل قوله‏:‏ ‏"‏فجمع كيده‏"‏، وقرأ الآخرون بقطع الألف وكسر الميم‏.‏ فقد قيل‏:‏ معناه الجمع أيضا، تقول العرب‏:‏ أجمعت الشيء وجمعته بمعنى واحد‏.‏

والصحيح أن معناه العزم والإحكام، أي‏:‏ أعزموا كلكم على كيده مجتمعين له، ولا تختلفوا فيختل أمركم‏.‏

‏{‏ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا‏}‏ أي جميعا، قاله مقاتل والكلبي، وقال قوم‏:‏ أي مصطفين مجتمعين ليكون أشد لهيبتكم، وقال أبو عبيدة‏:‏ الصف المجمع، ويسمى المصلى صفا‏.‏ معناه‏:‏ ثم ائتوا المكان الموعود‏.‏

‏{‏وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى‏}‏ أي‏:‏ فاز من غلب‏.‏ ‏{‏قَالَوا‏}‏ يعني السحرة، ‏{‏يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ‏}‏ عصاك، ‏{‏وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى‏}‏ عصاه‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ موسى‏:‏ ‏{‏بَلْ أَلْقُوا‏}‏ أنتم أولا ‏{‏فَإِذَا حِبَالُهُمْ‏}‏ وفيه إضمار، أي فألقوا فإذا حبالهم ‏{‏وَعِصِيُّهُمْ‏}‏ جمع العصا، ‏{‏يُخَيَّلُ إِلَيْهِ‏}‏ قرأ ابن عامر ويعقوب ‏"‏تخيل‏"‏ بالتاء ردا إلى الحبال والعصي، وقرأ الآخرون بالياء ردوه إلى الكيد والسحر، ‏{‏مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى‏}‏‏.‏

وفي القصة أنهم لما ألقوا الحبال والعصي أخذوا أعين الناس، فرأى موسى والقوم كأن الأرض امتلأت حيات، وكانت قد أخذت ميلا من كل جانب ورأوا أنها تسعى‏.‏ ‏{‏فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى‏}‏ أي وجد، وقيل‏:‏ أضمر في نفسه خوفا، واختلفوا في خوفه‏:‏ قيل‏:‏ خوف طبع البشرية، وذلك أنه ظن أنها تقصده‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ خاف على القوم أن يلتبس عليهم الأمر فيشكوا في أمره فلا يتبعوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 72‏]‏

‏{‏قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى ‏(‏68‏)‏ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ‏(‏69‏)‏ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ‏(‏70‏)‏ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ‏(‏71‏)‏ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏72‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْنَا‏}‏ لموسى‏:‏ ‏{‏لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى‏}‏ أي‏:‏ الغالب، يعني‏:‏ لك الغلبة والظفر‏.‏ ‏{‏وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ‏}‏ يعني العصا، ‏{‏تَلْقَفْ‏}‏ تلتقم وتبتلع، ‏{‏مَا صَنَعُوا‏}‏ قرأ ابن عامر ‏"‏تلقف‏"‏ برفع الفاء هاهنا، وقرأ الآخرون بالجزم على جواب الأمر، ‏{‏إِنَّمَا صَنَعُوا‏}‏ إن الذي صنعوا، ‏{‏كَيْدُ سَاحِرٍ‏}‏ أي حيلة سحر، هكذا قرأ حمزة والكسائي‏:‏ بكسر السين بلا ألف، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏ساحر‏"‏ لأن إضافة الكيد إلى الفاعل أولى من إضافته إلى الفعل، وإن كان ذلك لا يمتنع في العربية، ‏{‏وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى‏}‏ من الأرض، قال ابن عباس‏:‏ لا يسعد حيث كان‏.‏ وقيل‏:‏ معناه حيث احتال‏.‏ ‏{‏فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ‏}‏ لرئيسكم ومعلمكم، ‏{‏الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ‏}‏ أي‏:‏ على جذوع النخل ‏{‏وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا‏}‏؛ أنا على إيمانكم به، أو رب موسى على ترك الإيمان به‏؟‏ ‏{‏وَأَبْقَى‏}‏ أي‏:‏ أدوم‏.‏ ‏{‏قَالُوا‏}‏ يعني السحرة‏:‏ ‏{‏لَنْ نُؤْثِرَكَ‏}‏ لن نختارك، ‏{‏عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ‏}‏ يعني الدلالات، قال مقاتل‏:‏ يعني اليد البيضاء والعصا‏.‏

وقيل‏:‏ كان استدلالهم أنهم قالوا لو كان هذا سحرا فأين حبالنا وعصينا‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏مِنَ الْبَيِّنَاتِ‏}‏ يعني من التبيين والعلم‏.‏

حكي عن القاسم بن أبي بزة أنه قال‏:‏ إنهم لما ألقوا سجدا ما رفعوا رءوسهم حتى رأوا الجنة والنار، ورأوا ثواب أهلها، ورأوا منازلهم في الجنة، فعند ذلك قالوا‏:‏ لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات، ‏{‏وَالَّذِي فَطَرَنَا‏}‏ أي‏:‏ لن نؤثرك على الله الذي فطرنا، وقيل‏:‏ هو قسم، ‏{‏فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ‏}‏ أي‏:‏ فاصنع ما أنت صانع، ‏{‏إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏}‏ أي‏:‏ أمرك وسلطانك في الدنيا وسيزول عن قريب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏73‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ‏}‏ فإن قيل‏:‏ كيف قالوا هذا، وقد جاءوا مختارين يحلفون بعزة فرعون أن لهم الغلبة‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ روي عن الحسن أنه قال‏:‏ كان فرعون يكره قوما على تعلم السحر لكيلا يذهب أصله، وقد كان أكرههم في الابتداء‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ كانت السحرة اثنين وسبعين، اثنان من القبط وسبعون من بني إسرائيل، كان فرعون أكره الذين هم من بني إسرائيل على تعلم السحر، فذلك قولهم‏:‏ ‏{‏وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ‏}‏‏.‏

وقال عبد العزيز بن أبان‏:‏ قالت السحرة لفرعون‏:‏ أرنا موسى إذا نام، فأراهم موسى نائما وعصاه تحرسه، فقالوا لفرعون إن هذا ليس بساحر، إن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى عليهم إلا أن يتعلموا، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ‏}‏‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏ قال محمد بن إسحاق‏:‏ خير منك ثوابا، وأبقى عقابا‏.‏

وقال محمد بن كعب‏:‏ خير منك ثوابا إن أطيع، وأبقى منك عذابا إن عصى، وهذا جواب لقوله‏:‏ ‏"‏ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 77‏]‏

‏{‏إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا ‏(‏74‏)‏ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا ‏(‏75‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ‏(‏76‏)‏ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ‏(‏77‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا‏}‏ قيل‏:‏ هذا ابتداء كلام من الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ من تمام قول السحرة ‏{‏مُجْرِمًا‏}‏ أي‏:‏ مشركا، يعني‏:‏ مات على الشرك، ‏{‏فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا‏}‏ فيستريح، ‏{‏وَلا يَحْيَا‏}‏ حياة ينتفع بها‏.‏ ‏{‏وَمَنْ يَأْتِهِ‏}‏ قرأ أبو عمرو ساكنة الهاء ويختلسها أبو جعفر، وقالون ويعقوب، وقرأ الآخرون بالإشباع، ‏{‏مُؤْمِنًا‏}‏ مات على الإيمان، ‏{‏قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا‏}‏ الرفيعة، و ‏{‏الْعُلا‏}‏ جمع، و ‏"‏العليا‏"‏ تأنيث الأعلى‏.‏ ‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى‏}‏ أي‏:‏ تطهر من الذنوب‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ أعطى زكاة نفسه وقال لا إله إلا الله‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد السمسار، أخبرنا أبو أحمد حمزة بن محمد بن عباس الدهقان، أخبرنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق من آفاق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما‏"‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي‏}‏ أي‏:‏ سر بهم ليلا من أرض مصر، ‏{‏فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ‏}‏ أي اجعل لهم طريقا في البحر بالضرب بالعصا، ‏{‏يَبَسًا‏}‏ يابسا ليس فيه ماء ولا طين، وذلك أن الله أيبس لهم الطريق في البحر، ‏{‏لا تَخَافُ دَرَكًا‏}‏ قرأ حمزة ‏"‏لا تخف‏"‏ بالجزم على النهي، والباقون بالألف والرفع على النفي، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَخْشَى‏}‏ قيل‏:‏ لا تخاف أن يدركك فرعون من ورائك ولا تخشى أن يغرقك البحر أمامك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 81‏]‏

‏{‏فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ‏(‏78‏)‏ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ‏(‏79‏)‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ وَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ‏(‏80‏)‏ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ‏(‏81‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَأَتْبَعَهُمْ‏}‏ فلحقهم، ‏{‏فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ‏}‏ وقيل‏:‏ معناه أمر فرعون جنوده أن يتبعوا موسى وقومه، والباء فيه زائدة وكان هو فيهم، ‏{‏فَغَشِيَهُمْ‏}‏ أصابهم، ‏{‏مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ‏}‏ وهو الغرق‏.‏ وقيل‏:‏ غشيهم علاهم وسترهم بعض ماء اليم لا كله‏.‏

وقيل‏:‏ غشيهم من اليم ما غشيهم قوم موسى فغرقهم هم، ونجا موسى وقومه‏.‏ ‏{‏وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى‏}‏ أي‏:‏ ما أرشدهم، وهذا تكذيب لفرعون في قوله‏:‏ ‏"‏وما أهديكم إلا سبيل الرشاد‏"‏ ‏(‏غافر‏:‏ 29‏)‏‏.‏‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ‏}‏ فرعون، ‏{‏وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ وَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى‏}‏ ‏{‏كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏أنجيتكم‏"‏، و ‏"‏واعدتكم‏"‏، و ‏"‏رزقتكم‏"‏ بالتاء على التوحيد، وقرأ الآخرون بالنون والألف على التعظيم، ولم يختلفوا في ‏{‏وَنزلْنَا‏}‏ لأنه مكتوب بالألف‏.‏

‏{‏وَلا تَطْغَوْا فِيهِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لا تظلموا‏.‏ قال الكلبي‏:‏ لا تكفروا النعمة فتكونوا طاغين‏.‏

وقيل‏:‏ لا تنفقوا في معصيتي‏.‏

وقيل‏:‏ لا تدخروا، ثم ادخروا فتدود، ‏{‏فَيَحِلَّ‏}‏ قرأ الأعمش، والكسائي‏:‏ ‏"‏فيحل‏"‏ بضم الحاء ‏"‏ومن يحلل‏"‏ بضم اللام، أي‏:‏ ينزل، وقرأ الآخرون بكسرها أي‏:‏ يجب، ‏{‏عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى‏}‏ هلك وتردى في النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 85‏]‏

‏{‏وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ‏(‏82‏)‏ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ‏(‏83‏)‏ قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ‏(‏84‏)‏ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ‏(‏85‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ تاب من الشرك، ‏{‏وَآمَنَ‏}‏ ووحد الله وصدقه، ‏{‏وَعَمِلَ صَالِحًا‏}‏ أدى الفرائض، ‏{‏ثُمَّ اهْتَدَى‏}‏ قال عطاء عن ابن عباس‏:‏ علم أن ذلك توفيق من الله‏.‏

وقال قتادة وسفيان الثوري‏:‏ يعني لزم الإسلام حتى مات عليه‏.‏

قال الشعبي، ومقاتل، والكلبي‏:‏ علم أن لذلك ثوابا‏.‏

وقال زيد بن أسلم‏:‏ تعلم العلم ليهتدي به كيف يعمل‏.‏

قال الضحاك‏:‏ استقام‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ أقام على السنة والجماعة‏.‏ ‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ‏}‏ أي‏:‏ وما حملك على العجلة، ‏{‏عَنْ قَوْمِكَ‏}‏ وذلك أن موسى اختار من قومه سبعين رجلا حتى يذهبوا معه إلى الطور، ليأخذوا التوراة، فسار بهم ثم عجل موسى من بينهم شوقا إلى ربه عز وجل، وخلف السبعين، وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل، فقال الله تعالى له‏:‏ ‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى‏}‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ مجيبا لربه تعالى‏:‏ ‏{‏هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي‏}‏ أي‏:‏ هم بالقرب مني يأتون من بعدي، ‏{‏وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى‏}‏ لتزداد رضا‏.‏ ‏{‏قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ‏}‏ أي‏:‏ ابتلينا الذين خلفتهم مع هارون، وكانوا ستمائة ألف، فافتتنوا بالعجل غير اثني عشر ألفا ‏{‏مِنْ بَعْدِكَ‏}‏ أي‏:‏ من بعد انطلاقك إلى الجبل‏.‏

‏{‏وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ‏}‏ أي‏:‏ دعاهم وصرفهم إلى عبادة العجل وأضافه إلى السامري لأنهم ضلوا بسببه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 87‏]‏

‏{‏فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ‏(‏86‏)‏ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ‏(‏87‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا‏}‏ حزينا‏.‏ ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا‏}‏ صدقا أنه يعطيكم التوراة، ‏{‏أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ‏}‏ مدة مفارقتي إياكم، ‏{‏أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ ن أي‏:‏ أردتم أن تفعلوا فعلا يجب عليكم به الغضب من ربكم، ‏{‏فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي‏}‏ ‏{‏قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا‏}‏ قرأ نافع، وأبو جعفر، وعاصم‏:‏ ‏"‏بملكنا ‏"‏ بفتح الميم، وقرأ حمزة والكسائي بضمها، وقرأ الآخرون بكسرها، أي‏:‏ ونحن نملك أمرنا‏.‏ وقيل‏:‏ باختيارنا، ومن قرأ بالضم فمعناه بقدرتنا وسلطاننا، وذلك أن المرء إذا وقع في البلية والفتنة لم يملك نفسه‏.‏

‏{‏وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا‏}‏ قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، ويعقوب‏:‏ ‏"‏حملنا‏"‏ بفتح الحاء، وتخفيف الميم‏.‏ وقرأ الآخرون بضم الحاء وتشديد الميم، أي‏:‏ جعلونا نحملها وكلفنا حملها، ‏{‏أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ‏}‏ من حلي قوم فرعون، سماها أوزارا لأنهم أخذوها على وجه العارية فلم يردوها‏.‏ وذلك أن بني إسرائيل كانوا قد استعاروا حليا من القبط، وكان ذلك معهم حين خرجوا من مصر‏.‏

وقيل‏:‏ إن الله تعالى لما أغرق فرعون نبذ البحر حليهم فأخذوها، وكانت غنيمة، ولم تكن الغنيمة حلالا لهم في ذلك الزمان، فسماها أوزارا لذلك‏.‏

‏{‏فَقَذَفْنَاهَا‏}‏ قيل‏:‏ إن السامري قال لهم احفروا حفيرة فألقوها فيها حتى يرجع موسى‏.‏

قال السدي قال لهم هارون إن تلك غنيمة لا تحل، فاحفروا حفيرة فألقوها فيها حتى يرجع موسى، فيرى رأيه فيها، ففعلوا‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَقَذَفْنَاهَا‏}‏ أي‏:‏ طرحناها في الحفرة‏.‏ ‏{‏فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ‏}‏ ما معه من الحلي فيها، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أوقد هارون نارا وقال‏:‏ اقذفوا فيها ما معكم، فألقوه فيها، ثم ألقى السامري ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل‏.‏

قال قتادة‏:‏ كان قد أخذ قبضة من ذلك التراب في عمامته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 91‏]‏

‏{‏فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ‏(‏88‏)‏ أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا ‏(‏89‏)‏ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ‏(‏90‏)‏ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ‏(‏91‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ‏}‏ أي‏:‏ تركه موسى هاهنا، وذهب يطلبه‏.‏ وقيل‏:‏ أخطأ الطريق وضل‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا‏}‏ أي‏:‏ لا يرون أن العجل لا يكلمهم ولايجيبهم إذا دعوه، ‏{‏وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا‏}‏ وقيل‏:‏ إن هارون مر على السامري وهو يصوغ العجل فقال له‏:‏ ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي، فقال هارون‏:‏ اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه، فألقى التراب في فم العجل وقال كن عجلا يخور فكان كذلك بدعوة هارون‏.‏

والحقيقة أن ذلك كان فتنة ابتلى الله بها بني إسرائيل‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ‏}‏ من قبل رجوع موسى، ‏{‏يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ‏}‏ ابتليتم بالعجل، ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي‏}‏ على ديني في عبادة الله، ‏{‏وَأَطِيعُوا أَمْرِي‏}‏ في ترك عبادة العجل‏.‏ ‏{‏قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ‏}‏ أي لن نزال، ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ على عبادته، ‏{‏عَاكِفِينَ‏}‏ مقيمين، ‏{‏حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى‏}‏ فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا من الذين لم يعبدوا العجل، فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل، قال للسبعين الذين معه‏:‏ هذا صوت الفتنة، فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 96‏]‏

‏{‏قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ‏(‏92‏)‏ أَلا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ‏(‏93‏)‏ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ‏(‏94‏)‏ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ‏(‏95‏)‏ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ‏(‏96‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا‏}‏ أشركوا‏.‏ ‏{‏أَلا تَتَّبِعَنِي‏}‏ أي‏:‏ أن تتبعني و ‏"‏ لا ‏"‏ صلة أي تتبع أمري ووصيتي، يعني‏:‏ هلا قاتلتهم وقد علمت أني لو كنت فيهم لقاتلتهم على كفرهم‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏أن لا تتبعني‏"‏ أي‏:‏ ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالتهم، فتكون مفارقتك إياهم زجرا لهم عما أتوه، ‏{‏أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي‏}‏ أي خالفت أمري‏.‏ ‏{‏قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي‏}‏ أي بشعر رأسي وكان قد أخذ ذوائبه، ‏{‏إِنِّي خَشِيتُ‏}‏ لو أنكرت عليهم لصاروا حزبين يقتل بعضهم بعضا، ‏{‏أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ أي خشيت إن فارقتهم واتبعتك صاروا أحزابا يتقاتلون، فتقول أنت فرقت بين بني إسرائيل ‏{‏وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي‏}‏ ولم تحفظ وصيتي حين قلت لك اخلفني في قومي، وأصلح أي ارفق بهم ثم أقبل موسى على السامري ‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكَ‏}‏ ما أمرك وشأنك‏؟‏ وما الذي حملك على ما صنعت‏؟‏ ‏{‏يَا سَامِرِيُّ‏}‏ ‏{‏قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ‏}‏ رأيت ما لم يروا وعرفت ما لم يعرفوا‏.‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏ ما لم تبصروا ‏"‏ بالتاء على الخطاب، وقرأ الآخرون بالياء على الخبر‏.‏

‏{‏فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ‏}‏ أي من تراب أثر فرس جبريل، ‏{‏فَنَبَذْتُهَا‏}‏ أي ألقيتها في فم العجل‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنما خار لهذا لأن التراب كان مأخوذا من تحت حافر فرس جبريل‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف عرفه ورأى جبريل من بين سائر الناس‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ لأن أمه لما ولدته في السنة التي يقتل فيها البنون وضعته في الكهف حذرا عليه، فبعث الله جبريل ليربيه لما قضى على يديه من الفتنة‏.‏

‏{‏وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ‏}‏ أي زينت ‏{‏لِي نَفْسِي‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ‏(‏97‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ‏}‏ أي‏:‏ ما دمت حيا، ‏{‏أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ‏}‏ أي‏:‏ لا تخالط أحدا، ولا يخالطك أحد، وأمر موسى بني إسرائيل أن لا يخالطوه، ولا يقربوه‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ لا مساس لك ولولدك، و ‏"‏المساس‏"‏ من المماسة، معناه‏:‏ لا يمس بعضنا بعضا، فصار السامري يهيم في البرية مع الوحوش والسباع، لا يمس أحدا ولا يمسه أحد، عاقبه الله بذلك، وكان إذا لقي أحدا يقول‏:‏ ‏"‏لا مساس‏"‏، أي‏:‏ لا تقربني ولا تمسني‏.‏

وقيل‏:‏ كان إذا مس أحدا أو مسه أحد حما جميعا حتى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك، وإذا مس أحد من غيرهم أحدا منهم حما جميعا في الوقت‏.‏

‏{‏وَإِنَّ لَكَ‏}‏ يا سامري، ‏{‏مَوْعِدًا‏}‏ لعذابك، ‏{‏لَنْ تُخْلَفَهُ‏}‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب‏:‏ ‏{‏لَنْ تُخْلَفَهُ‏}‏ بكسر اللام أي لن تغيب عنه، ولا مذهب لك عنه، بل توافيه يوم القيامة، وقرأ الآخرون بفتح اللام أي لن تكذبه ولن يخلفك الله، ومعناه‏:‏ أن الله تعالى يكافئك على فعلك ولا تفوته‏.‏

‏{‏وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ‏}‏ بزعمك، ‏{‏الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا‏}‏ أي ظلت ودمت عليه مقيما تعبده، والعرب تقول‏:‏ ظلت أفعل كذا بمعنى ظللت، ومستُ بمعنى مسست‏.‏

‏{‏لَنُحَرِّقَنَّهُ‏}‏ بالنار، قرأ أبو جعفر بالتخفيف من الإحراق، ‏{‏ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ‏}‏ لنذرينه، ‏{‏فِي الْيَمِّ‏}‏ في البحر، ‏{‏نَسْفًا‏}‏ روي أن موسى أخذ العجل فذبحه فسال منه دم، لأنه كان قد صار لحما ودما ثم حرقه بالنار، ثم ذراه في اليم، قرأ ابن محيصن‏:‏ ‏"‏لنحرقنه‏"‏ بفتح النون وضم الراء لنبردنه بالمبرد، ومنه قيل للمبرد المحرق‏.‏ وقال السدي‏:‏ أخذ موسى العجل فذبحه ثم حرقه بالمبرد، ثم ذراه في اليم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 101‏]‏

‏{‏إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏98‏)‏ كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ‏(‏99‏)‏ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ‏(‏100‏)‏ خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا ‏(‏101‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا‏}‏ وسع علمه كل شيء‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ‏}‏ من الأمور، ‏{‏وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا‏}‏ يعني القرآن‏.‏ ‏{‏مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ‏}‏ أي‏:‏ عن القرآن، فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه، ‏{‏فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا‏}‏ حملا ثقيلا من الإثم‏.‏ ‏{‏خَالِدِينَ فِيهِ‏}‏ مقيمين في عذاب الوزر، ‏{‏وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا‏}‏ أي بئس ما حملوا على أنفسهم من الإثم كفرا بالقرآن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 105‏]‏

‏{‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ‏(‏102‏)‏ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا ‏(‏103‏)‏ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا ‏(‏104‏)‏ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ‏(‏105‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ‏}‏ قرأ أبو عمرو ‏"‏ننفخ ‏"‏ بالنون وفتحها وضم الفاء لقوله‏:‏ ‏"‏ونحشر ‏"‏، وقرأ الآخرون بالياء وضمها وفتح الفاء على غير تسمية الفاعل، ‏{‏وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ المشركين، ‏{‏يَوْمَئِذٍ زُرْقًا‏}‏ والزرقة‏:‏ هي الخضرة‏:‏ في سواد العين، فيحشرون زرق العيون سود الوجوه‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏زُرْقًا‏}‏ أي عميا‏.‏ وقيل‏:‏ عطاشا‏.‏ ‏{‏يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي يتشاورون بينهم ويتكلمون خفية، ‏{‏إِنْ لَبِثْتُمْ‏}‏ أي ما مكثتم في الدنيا، ‏{‏إِلا عَشْرًا‏}‏ أي عشر ليال‏.‏ وقيل‏:‏ في القبور‏.‏ وقيل‏:‏ بين النفختين، وهو أربعون سنة؛ لأن العذاب يرفع عنهم بين النفختين‏.‏ استقصروا مدة لبثهم لهول ما عاينوا‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ‏}‏ أي يتسارون بينهم، ‏{‏إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً‏}‏ أوفاهم عقلا وأعدلهم قولا ‏{‏إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا‏}‏ قصر ذلك في أعينهم في جنب ما استقبلهم من أهوال يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ نسوا مقدار لبثهم لشدة ما دهمهم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ سأل رجل من ثقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ كيف تكون الجبال يوم القيامة‏؟‏ فأنزل الله هذه الآية‏.‏

والنسف هو القلع، أي‏:‏ يقلعها من أصلها ويجعلها هباء منثورا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 109‏]‏

‏{‏فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ‏(‏106‏)‏ لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا ‏(‏107‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ‏(‏108‏)‏ يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا ‏(‏109‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَيَذَرُهَا‏}‏ أي‏:‏ فيدع أماكن الجبال من الأرض، ‏{‏قَاعًا صَفْصَفًا‏}‏ أي‏:‏ أرضا ملساء مستوية لا نبات فيها، و ‏"‏القاع‏"‏‏:‏ ما انبسط من الأرض، و ‏"‏الصفصف‏"‏‏:‏ الأملس‏.‏

‏{‏لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ انخفاضا وارتفاعا‏.‏

وقال الحسن‏:‏ ‏"‏العوج‏"‏‏:‏ ما انخفض من الأرض، و ‏"‏الأمت‏"‏‏:‏ ما نشز من الروابي، أي‏:‏ لا ترى واديا ولا رابية‏.‏

قال قتادة‏:‏ لا ترى فيها صدعا ولا أكمة‏.‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ‏}‏ أي صوت الداعي الذي يدعوهم إلى موقف القيامة، وهو إسرافيل، وذلك أنه يضع الصور في فيه، ويقول‏:‏ أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة هلموا إلى عرض الرحمن‏.‏

‏{‏لا عِوَجَ لَهُ‏}‏ أي‏:‏ لدعائه، وهو من المقلوب، أي‏:‏ لا عوج لهم عن دعاء الداعي، لا يزيغون عنه يمينا وشمالا ولا يقدرون عليه بل يتبعونه سراعا‏.‏

‏{‏وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ‏}‏ أي‏:‏ سكنت وذلت وخضعت، ووصف الأصوات بالخشوع والمراد أهلها، ‏{‏فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا‏}‏ يعني صوت وطء الأقدام إلى المحشر، و ‏"‏الهمس‏"‏‏:‏ الصوت الخفي كصوت أخفاف الإبل في المشي‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو تخافت الكلام وخفض الصوت‏.‏

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ تحريك الشفاه من غير نطق‏.‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ‏}‏ يعني‏:‏ لا تنفع الشفاعة أحدا من الناس، ‏{‏إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ‏}‏ يعني إلا من أذن له أن يشفع، ‏{‏وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا‏}‏ يعني‏:‏ ورضى قوله، قال ابن عباس، يعني‏:‏ قال لا إله إلا الله وهذا يدل على أنه لا يشفع غير المؤمن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 112‏]‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ‏(‏110‏)‏ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ‏(‏111‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ‏(‏112‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ الكناية راجعة إلى الذين يتبعون الداعي، أي يعلم الله ‏{‏مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ مَا قَدَّمُوا ‏{‏وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ وما خلفوا من أمر الدنيا‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ مِنَ الآخِرَةِ ‏{‏وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ من الأعمال‏.‏

‏{‏وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا‏}‏ قيل‏:‏ الكناية ترجع إلى ‏"‏ما‏"‏ أي‏:‏ هو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وهم لا يعلمونه‏.‏ وقيل‏:‏ الكناية راجعة إلى الله لأن عباده لا يحيطون به علما‏.‏ ‏{‏وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ‏}‏ ذلت وخضعت، ومنه قيل للأسير‏:‏ عان‏.‏ وقال طلق بن حبيب‏:‏ هو السجود على الجبهة للحي القيوم، ‏{‏وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ خسر من أشرك بالله، والظلم هو الشرك‏.‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ‏}‏ قرأ ابن كثير ‏"‏فلا يخف ‏"‏ مجزوما على النهي جوابا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ‏}‏ وقرأ الآخرون ‏{‏فَلا يَخَافُ‏}‏ مرفوعا على الخبر، ‏{‏ظُلْمًا وَلا هَضْمًا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لا يخاف أن يزاد على في سيئاته، لا ينقص من حسناته‏.‏

وقال الحسن‏:‏ لا ينقص من ثواب حسناته ولا يحمل عليه ذنب مسيء‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ لا يؤخذ بذنب لم يعمله ولا تبطل حسنة عملها وأصل الهضم‏:‏ النقص والكسر، ومنه هضم الطعام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 115‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ‏(‏113‏)‏ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ‏(‏114‏)‏ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ‏(‏115‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَكَذَلِكَ‏}‏ أي كما بينا في هذه السورة، ‏{‏أَنزلْنَاهُ‏}‏ يعني أنزلنا هذا الكتاب، ‏{‏قُرْآنًا عَرَبِيًّا‏}‏ يعني‏:‏ بلسان العرب، ‏{‏وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ‏}‏ أي صرفنا القول فيه بذكر الوعيد، ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ أي يجتنبون الشرك، ‏{‏أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا‏}‏ أي يجدد لهم القرآن عبرة وعظة فيعتبروا ويتعظوا بذكر عقاب الله للأمم الخالية‏.‏ ‏{‏فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ‏}‏ جل الله عن إلحاد الملحدين وعما يقوله المشركون، ‏{‏وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ‏}‏ أراد النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا نزل عليه جبريل بالقرآن يبادر فيقرأ معه، قبل أن يفرغ جبريل مما يريد من التلاوة، ومخافة الانفلات والنسيان، فنهاه الله عن ذلك وقال‏:‏ ‏{‏وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ‏}‏ أي لا تعجل بقراءته ‏{‏مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ‏}‏ أي من قبل أن يفرغ جبريل من الإبلاغ، نظيره قوله تعالى‏:‏ ‏"‏لا تحرك به لسانك لتعجل به‏"‏ ‏(‏سورة القيامة‏:‏ 16‏)‏ وقرأ يعقوب‏:‏ ‏"‏ نقضي ‏"‏ بالنون وفتحها وكسر الضاد، وفتح الياء‏:‏ ‏"‏ وحيه ‏"‏ بالنصب‏.‏

قال مجاهد وقتادة‏:‏ معناه لا تقرئه أصحابك، ولا تمله عليهم حتى يتبين لك معانيه‏.‏

‏{‏وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا‏}‏ يعني بالقرآن ومعانيه‏.‏ وقيل‏:‏ علما إلى ما علمت‏.‏

وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال‏:‏ اللهم رب زدني علما وإيمانا ويقينا‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ يعني‏:‏ أمرناه وأوحينا إليه أن لا يأكل من الشجرة من قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدك وتركوا الإيمان بي، وهم الذين ذكرهم الله في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏لعلهم يتقون‏"‏، ‏{‏فَنَسِيَ‏}‏ فترك الأمر، والمعنى أنهم نقضوا العهد، فإن آدم أيضا عهدنا إليه فنسي، ‏{‏وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا‏}‏ قال الحسن لم نجد له صبرا عما نهي عنه‏.‏ وقال عطية العوفي‏:‏ حفظا لما أمر به‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ رأيا معزوما حيث أطاع عدوه إبليس الذي حسده وأبى أن يسجد له‏.‏ و ‏"‏العزم‏"‏ في اللغة‏:‏ هو توطين النفس على الفعل‏.‏

قال أبو أمامة الباهلي‏:‏ لو وزن حلم آدم بحلم جميع ولده لرجح حلمه وقد قال الله‏:‏ ‏"‏ولم نجد له عزما‏"‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ أتقولون إن آدم كان ناسيا لأمر الله حين أكل من الشجرة‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ يجوز أن يكون نسي أمره، ولم يكن النسيان في ذلك الوقت مرفوعا عن الإنسان، بل كان مؤاخذا به، وإنما رفع عنا‏.‏

وقيل‏:‏ نسي عقوبة الله وظن أنه نهي تنزيها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 117‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى ‏(‏116‏)‏ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ‏(‏117‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى‏}‏ أن يسجد‏.‏ ‏{‏فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ‏}‏ حواء، ‏{‏فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى‏}‏ يعني‏:‏ تتعب وتنصب، ويكون عيشك من كد يمينك بعرق جبينك‏.‏ قال السدي‏:‏ يعني الحرث والزرع والحصيد والطحن والخبيز‏.‏

وعن سعيد بن جبير‏:‏ قال أهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يحرث عليه، ويمسح العرق عن جبينه، فذلك شقاؤه‏.‏

ولم يقل‏:‏ ‏"‏فتشقيا‏"‏ رجوعا به إلى آدم، لأن تعبه أكثر فإن الرجل هو الساعي على زوجته‏.‏

وقيل‏:‏ لأجل رءوس الآي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 121‏]‏

‏{‏إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى ‏(‏118‏)‏ وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ‏(‏119‏)‏ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ‏(‏120‏)‏ فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ‏(‏121‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا‏}‏ أي في الجنة ‏{‏وَلا تَعْرَى‏}‏ ‏{‏وَأَنَّكَ‏}‏ قرأ نافع وأبو بكر بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ الآخرون بالفتح نسقا على قوله‏:‏ ‏{‏أَلا تَجُوعَ فِيهَا‏}‏ ‏{‏وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ‏}‏ لا تعطش، ‏{‏فِيهَا وَلا تَضْحَى‏}‏ يعني‏:‏ لا تبرز للشمس فيؤذيك حرها‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ لا تصيبك الشمس وأذاها لأنه ليس في الجنة شمس، وأهلها في ظل ممدود‏.‏ ‏{‏فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ‏}‏ يعني على شجرة إن أكلت منها بقيت مخلدا، ‏{‏وَمُلْكٍ لا يَبْلَى‏}‏ لا يبيد ولا يفنى‏.‏ ‏{‏فَأَكَلا‏}‏ يعني آدم وحواء عليهما السلام، ‏{‏مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ‏}‏ بأكل الشجرة، ‏{‏فَغَوَى‏}‏ يعني فعل ما لم يكن له فعله‏.‏ وقيل‏:‏ أخطأ طريق الجنة وضل حيث طلب الخلد بأكل ما نهي عن أكله، فخاب ولم ينل مراده‏.‏

قال ابن الأعرابي‏:‏ أي فسد عليه عيشه، وصار من العز إلى الذل، ومن الراحة إلى التعب‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ يجوز أن يقال عصى آدم، ولا يجوز أن يقال‏:‏ آدم عاص؛ لأنه إنما يقال عاص لمن اعتاد فعل المعصية، كالرجل يخيط ثوبه يقال‏:‏ خاط ثوبه، ولا يقال هو خياط حتى يعاود ذلك ويعتاده‏.‏

حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي، أخبرنا أبو معاذ الشاه بن عبد الرحمن المزني، أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري ببغداد، أخبرنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن طاوس سمع أبا هريرة يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏احتج آدم وموسى‏:‏ فقال موسى‏:‏ يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال آدم‏:‏ يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده، أفتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة‏؟‏ فحج آدم موسى‏"‏‏.‏

ورواه عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة وزاد‏:‏ ‏"‏قال آدم يا موسى بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق‏؟‏ قال موسى‏:‏ بأربعين عاما، قال آدم‏:‏ فهل وجدت فيها‏:‏ وعصى آدم ربه فغوى‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة‏؟‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فحج آدم موسى‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏122- 124‏]‏

‏{‏ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ‏(‏122‏)‏ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ‏(‏123‏)‏ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ‏(‏124‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ‏}‏ اختاره واصطفاه، ‏{‏فَتَابَ عَلَيْهِ‏}‏ بالعفو، ‏{‏وَهَدَى‏}‏ هداه إلى التوبة حين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا‏.‏ ‏{‏قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ‏}‏ يعني الكتاب والرسول، ‏{‏فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى‏}‏ روى سعيد بن جبر عن ابن عباس قال‏:‏ من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله في الدنيا من الضلالة، ووقاه الله يوم القيامة سوء الحساب، وذلك بأن الله يقول‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى‏}‏‏.‏

وقال الشعبي عن ابن عباس‏:‏ أجار الله تعالى تابع القرآن من أن يضل في الدنيا ويشقى في الآخرة، وقرأ هذه الآية‏.‏ ‏{‏وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي‏}‏ يعني‏:‏ القرآن، فلم يؤمن به ولم يتبعه، ‏{‏فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا‏}‏ ضيقا، روى عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري أنهم قالوا‏:‏ هو عذاب القبر‏.‏ قال أبو سعيد‏:‏ يضغط حتى تختلف أضلاعه‏.‏

وفي بعض المسانيد مرفوعا‏.‏ ‏"‏يلتئم عليه القبر حتى تختلف أضلاعه فلا يزال يعذب حتى يبعث‏"‏‏.‏

وقال الحسن‏:‏ هو الزقوم والضريع والغسلين في النار‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ هو الحرام‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هو الكسب الخبيث‏.‏

وعن ابن عباس قال‏:‏ الشقاء‏.‏ وروى عنه أنه قال‏:‏ كل مال أعطى العبد قل أم كثر فلم يتق فيه فلا خير فيه، وهو الضنك في المعيشة، وإن أقواما أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين، فكانت معيشتهم ضنكا، وذلك أنهم يرون أن الله ليس بمخلف عليهم فاشتدت عليهم معايشهم من سوء ظنهم بالله‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ يسلبه القناعة حتى لا يشبع‏.‏

‏{‏وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أعمى البصر‏.‏ وقال مجاهد أعمى عن الحجة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏125- 127‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ‏(‏125‏)‏ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ‏(‏126‏)‏ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ‏(‏127‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا‏}‏ بالعين أو بصيرا بالحجة‏.‏ ‏{‏قَالَ كَذَلِكَ‏}‏ أي كما ‏{‏أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا‏}‏ فتركتها وأعرضت عنها، ‏{‏وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى‏}‏ تترك في النار‏.‏ قال قتادة‏:‏ نسوا من الخير ولم ينسوا من العذاب‏.‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ‏}‏ أي وكما جزينا من أعرض عن القرآن كذلك ‏{‏نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ‏}‏ أشرك، ‏{‏وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ‏}‏ مما يعذبهم به في الدنيا والقبر، ‏{‏وَأَبْقَى‏}‏ وأدوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 130‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى ‏(‏128‏)‏ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ‏(‏129‏)‏ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ‏(‏130‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ‏}‏ يبين لهم القرآن، يعني‏:‏ كفار مكة، ‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ‏}‏ ديارهم ومنازلهم إذا سافروا‏.‏ والخطاب لقريش كانوا يسافرون إلى الشام فيرون ديار المهلكين من أصحاب الحجر وثمود وقريات لوط‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى‏}‏ لذوي العقول‏.‏ ‏{‏وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى‏}‏ فيه تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى، والكلمة الحكم بتأخير العذاب عنهم، أي ولولا حكم سبق بتأخير العذاب عنهم وأجل مسمى وهو القيامة لكان لزاما، أي لكان العذاب لازما لهم كما لزم القرون الماضية الكافرة‏.‏ ‏{‏فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ‏}‏ نسختها آية القتال ‏{‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ‏}‏، أي صل بأمر ربك‏.‏ وقيل‏:‏ صل لله بالحمد له والثناء عليه، ‏{‏قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ‏}‏ يعني صلاة الصبح، ‏{‏وَقَبْلَ غُرُوبِهَا‏}‏ صلاة العصر، ‏{‏وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ‏}‏ ساعاتها واحدها إنى، ‏{‏فَسَبِّحْ‏}‏ يعني صلاة المغرب والعشاء‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد أول الليل، ‏{‏وَأَطْرَافَ النَّهَارِ‏}‏ يعني صلاة الظهر، وسمى وقت الظهر أطراف النهار لأن وقته عند الزوال، وهو طرف النصف الأول انتهاء وطرف النصف الآخر ابتداء‏.‏

وقيل‏:‏ المراد من آناء الليل صلاة العشاء، ومن أطراف النهار صلاة الظهر والمغرب، لأن الظهر في آخر الطرف الأول من النهار، وفي أول الطرف الآخر، فهو في طرفين منه والطرف الثالث غروب الشمس، وعند ذلك يصلي المغرب‏.‏

‏{‏لَعَلَّكَ تَرْضَى‏}‏ أي ترضى ثوابه في المعاد، وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم ‏"‏ترضى‏"‏ بضم التاء أي تعطى ثوابه‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏تَرْضَى‏}‏ أي يرضاك الله تعالى، كما قال‏:‏ ‏"‏وكان عند ربه مرضيا‏"‏ ‏(‏مريم‏:‏ 55‏)‏ وقيل‏:‏ معنى الآية لعلك ترضى بالشفاعة، كما قال‏:‏ ‏"‏ولسوف يعطيك ربك فترضى‏"‏ ‏(‏الضحى‏:‏5‏)‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الخطيب الحميدي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني إملاء، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله السعدي، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله قال‏:‏ كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال‏:‏ ‏"‏إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا‏"‏، ثم قرأ ‏{‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏131‏]‏

‏{‏وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏131‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ‏}‏ قال أبو رافع‏:‏ نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فبعثني إلى يهودي فقال لي‏:‏ ‏"‏قل له إن رسول الله يقول لك بعني كذا وكذا من الدقيق وأسلفني إلى هلال رجب‏"‏ فأتيته فقلت له ذلك فقال‏:‏ والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال‏:‏ ‏"‏والله لئن باعني وأسلفني لقضيته وإني لأمين في السماء وأمين في الأرض، اذهب بدرعي الحديد إليه‏"‏ فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ‏}‏ لا تنظر، ‏{‏إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ‏}‏ أعطينا، ‏{‏أَزْوَاجًا‏}‏ أصنافا، ‏{‏مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ أي زينتها وبهجتها، وقرأ يعقوب زهرة بفتح الهاء وقرأ العامة بجزمها، ‏{‏لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏ أي لنجعل ذلك فتنة لهم بأن أزيد لهم النعمة فيزيدوا كفرا وطغيانا، ‏{‏وَرِزْقُ رَبِّكَ‏}‏ في المعاد، يعني‏:‏ الجنة، ‏{‏خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏ قال أبي بن كعب‏:‏ من لم يتعز بعز الله تقطعت نفسه حسرات، ومن يتبع بصره فيما في أيد الناس بطل حزنه، ومن ظن أن نعمة الله في مطعمه ومشربه وملبسه فقد قل عمله وحضر عذابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏132- 134‏]‏

‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ‏(‏132‏)‏ وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى ‏(‏133‏)‏ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ‏(‏134‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ‏}‏ أي قومك‏.‏ وقيل‏:‏ من كان على دينك، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وكان يأمر أهله بالصلاة‏"‏ ‏(‏مريم‏:‏ 55‏)‏، ‏{‏وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا‏}‏ أي اصبر على الصلاة، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر‏.‏

‏{‏لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا‏}‏ لا نكلفك أن ترزق أحدا من خلقنا، ولا أن ترزق نفسك وإنما نكلفك عملا ‏{‏نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ‏}‏ الخاتمة الجميلة المحمودة، ‏{‏لِلتَّقْوَى‏}‏ أي لأهل التقوى‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ الذين صدقوك واتبعوك واتقوني‏.‏

وفي بعض المسانيد أن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كان إذا أصاب أهله ضرٌّ أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا‏}‏ يعني المشركين، ‏{‏لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ‏}‏ أي الآية المقترحة فإنه كان قد أتاهم بآيات كثيرة، ‏{‏أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ‏}‏ قرأ أهل المدينة والبصرة وحفص عن عاصم‏:‏ ‏"‏ تأتهم ‏"‏ لتأنيث البينة، وقرأ الآخرون بالياء لتقدم الفعل، ولأن البينة هي البيان فرد إلى المعنى، ‏{‏بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى‏}‏ أي بيان ما فيها، وهو القرآن أقوى دلالة وأوضح آية‏.‏

وقيل‏:‏ أو لم يأتهم بيان ما في الصحف الأولى‏:‏ التوراة، والإنجيل، وغيرهما من أنباء الأمم أنهم اقترحوا الآيات، فلما أتتهم ولم يؤمنوا بها، كيف عجلنا لهم العذاب والهلاك، فما يؤمنهم إن أتتهم الآية أن يكون حالهم كحال أولئك‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ‏}‏ من قبل إرسال الرسول وإنزال القرآن، ‏{‏لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا‏}‏ هلا ‏{‏أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا‏}‏ يدعونا، أي‏:‏ لقالوا يوم القيامة، ‏{‏فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى‏}‏ بالعذاب، والذل، والهوان، والخزي، والافتضاح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

‏{‏قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ‏(‏135‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ‏}‏ منتظر دوائر الزمان، وذلك أن المشركين قالوا نتربص بمحمد حوادث الدهر، فإذا مات تخلصنا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَرَبَّصُوا‏}‏ فانتظروا، ‏{‏فَسَتَعْلَمُونَ‏}‏ إذا جاء أمر الله وقامت القيامة، ‏{‏مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ‏}‏ المستقيم، ‏{‏وَمَنِ اهْتَدَى‏}‏ من الضلالة نحن أم أنتم‏؟‏

سورة الأنبياء

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ‏(‏1‏)‏ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏2‏)‏ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ‏}‏ قيل اللام بمعنى من، أي اقترب من الناس حسابهم، أي وقت محاسبة الله إياهم على أعمالهم، يعني يوم القيامة، نزلت في منكري البعث، ‏{‏وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ‏}‏ عن التأهب له‏.‏ ‏{‏مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ‏}‏ يعني ما يحدث الله من تنزيل شيء من القرآن يذكرهم ويعظهم به‏.‏

قال مقاتل‏:‏ يحدث الله الأمر بعد الأمر قيل‏:‏ الذكر المحدث ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وبينه من السنن والمواعظ سوى ما القرآن، وأضافه إلى الرب عز وجل لأنه قال بأمر الرب، ‏{‏إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ‏}‏ أي استمعوه لاعبين لا يعتبرون ولا يتعظون‏.‏ ‏{‏لاهِيَةً‏}‏ ساهية غافلة، ‏{‏قُلُوبُهُمْ‏}‏ معرضة عن ذكر الله، وقوله ‏{‏لاهِيَةً‏}‏ نعت تقدم الاسم، ومن حق النعت أن يتبع الاسم في الإعراب، وإذا تقدم النعت الاسم فله حالتان‏:‏ فصل ووصل، فحالته في الفصل النصب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خشعا أبصارهم‏}‏ ‏(‏القمر‏:‏ 7‏)‏، ‏{‏ودانية عليهم ظلالها‏}‏ ‏(‏الإنسان‏:‏ 11‏)‏، و ‏{‏لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ‏}‏ وفي الوصل حالة ما قبله من الإعراب كقوله، ‏{‏أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 75‏)‏؛ ‏{‏وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا‏}‏ أي أشركوا، قوله‏:‏ ‏{‏وَأَسَرُّوا‏}‏ فعل تقدم الجمع وكان حقه وأسر، قال الكسائي‏:‏ فيه تقديم وتأخير، أراد‏:‏ والذين ظلموا أسروا النجوى‏.‏

وقيل‏:‏ حمل ‏"‏الذين‏"‏ رفع على الابتداء، معناه‏:‏ وأسروا النجوى، ثم قال‏:‏ وهم الذين ظلموا‏.‏

وقيل‏:‏ رفع على البدل من الضمير في أسروا‏.‏ قال المبرد‏:‏ هذا كقولك إن الذين في الدار انطلقوا بنو عبد الله، على البدل مما في انطلقوا ثم بين سرهم الذي تناجوا به فقال‏:‏ ‏{‏هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ‏}‏ أنكروا إرسال البشر وطلبوا إرسال الملائكة‏.‏

‏{‏أَفَتَأْتُونَ‏}‏ أي تحضرون السحر وتقبلونه، ‏{‏وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ‏}‏ تعلمون أنه سحر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏4‏)‏ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ ‏(‏5‏)‏ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏‏.‏

قل لهم يا محمد، ‏{‏رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وحفص‏:‏ ‏"‏قال ربي‏"‏، على الخبر عن محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ‏}‏ أي لا يخفي عليه شيء، ‏{‏وَهُوَ السَّمِيعُ‏}‏ لأقوالهم، ‏{‏الْعَلِيمُ‏}‏ بأفعالهم‏.‏ ‏{‏بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ‏}‏ أباطيلها وأقاويلها وأهاويلها رآها في النوم، ‏{‏بَلِ افْتَرَاهُ‏}‏ اختلقه، ‏{‏بَلْ هُوَ شَاعِرٌ‏}‏ يعني أن المشركين اقتسموا القول فيه وفيما يقوله، قال بعضهم‏:‏ أضغاث أحلام، وقال بعضهم‏:‏ بل هو فرية، وقال بعضهم‏:‏ بل محمد شاعر وما جاءكم به شعر‏.‏ ‏{‏فَلْيَأْتِنَا‏}‏ محمد ‏{‏بِآيَةٍ‏}‏ إن كان صادقا ‏{‏كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ‏}‏ من الرسل بالآيات‏.‏ قال الله تعالى مجيبا لهم‏:‏ ‏{‏مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ‏}‏ قبل مشركي مكة، ‏{‏مِنْ قَرْيَةٍ‏}‏ أي من أهل قرية أتتهم الآيات، ‏{‏أَهْلَكْنَاهَا‏}‏ أهلكناهم بالتكذيب، ‏{‏أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏؟‏، إن جاءتهم آية، معناه‏:‏ أن أولئك لم يؤمنوا بالآيات لما أتتهم أفيؤمن هؤلاء‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 10‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ‏(‏7‏)‏ وَمَا جَعلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ‏(‏9‏)‏ لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ‏}‏ هذا جواب لقولهم‏:‏ ‏{‏هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ إنا لم نرسل الملائكة إلى الأولين إنما أرسلنا رجالا نوحي إليهم، ‏{‏فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ‏}‏ يعني‏:‏ أهل التوراة والإنجيل، يريد علماء أهل الكتاب، فإنهم لا ينكرون أن الرسل كانوا بشرا، وإن أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر المشركين بمسألتهم لأنهم إلى تصديق من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم أقرب منهم إلى تصديق من آمن به‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ أراد بالذكر القرآن أراد‏:‏ فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن، ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَاهُمْ‏}‏ أي الرسل، ‏{‏جَسَدًا‏}‏ ولم يقل أجسادا لأنه اسم الجنس، ‏{‏لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ‏}‏ هذا رد لقولهم ‏{‏ما لهذا الرسول يأكل الطعام‏}‏ ‏(‏الفرقان‏:‏ 7‏)‏، يقول لم نجعل الرسل ملائكة بل جعلناهم بشرا يأكلون الطعام، ‏{‏وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ‏}‏ في الدنيا‏.‏ ‏{‏ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ‏}‏ الذي وعدناهم بإهلاك أعدائهم، ‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ‏}‏ أي أنجينا المؤمنين الذين صدقوهم، ‏{‏وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ‏}‏ أي المشركين المكذبين، وكل مشرك مسرف على نفسه‏.‏ ‏{‏لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا‏}‏ يا معشر قريش، ‏{‏فِيهِ ذِكْرُكُمْ‏}‏ أي شرفكم، كما قال‏:‏ ‏{‏وإنه لذكر لك ولقومك‏}‏ ‏(‏الزخرف‏:‏ 44‏)‏، وهو شرف لمن آمن به‏.‏

قال مجاهد‏:‏ فيه حديثكم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ فيه ذكركم أي ذكر ما تحتاجون إليه من أمر دينكم، ‏{‏أَفَلا تَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 16‏]‏

‏{‏وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ‏(‏11‏)‏ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ‏(‏12‏)‏ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ‏(‏13‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏14‏)‏ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ‏(‏15‏)‏ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَكَمْ قَصَمْنَا‏}‏ أهلكنا، والقصم‏:‏ الكسر، ‏{‏مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً‏}‏ أي كافرة، يعني أهلها، ‏{‏وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا‏}‏ أي‏:‏ أحدثنا بعد هلاك أهلها، ‏{‏قَوْمًا آخَرِينَ‏}‏ ‏{‏فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا‏}‏ أي رأوا عذابنا بحاسة البصر، ‏{‏إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ‏}‏ أي يسرعون هاربين‏.‏ ‏{‏لا تَرْكُضُوا‏}‏ أي قيل لهم لا تركضوا لا تهربوا، ‏{‏وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ‏}‏ أي نعمتم به، ‏{‏وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ عن قتل نبيكم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ من دنياكم شيئا، نزلت هذه الآية في أهل حصورا، وهي قرية باليمن وكان أهلها العرب، فبعث الله إليهم نبيا يدعوهم إلى الله فكذبوه وقتلوه، فسلط الله عليهم بختنصر، حتى قتلهم وسباهم فلما استمر فيهم القتل ندموا وهربوا وانهزموا، فقالت الملائكة لهم استهزاء‏:‏ لا تركضوا وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم لعلكم تسألون‏.‏

قال قتادة‏:‏ لعلكم تسألون شيئا من دنياكم، فتعطون من شئتم وتمنعون من شئتم، فإنكم أهل ثروة ونعمة، يقولون ذلك استهزاء بهم، فاتبعهم بختنصر وأخذتهم السيوف، ونادى مناد في جو السماء‏:‏ يا ثارات الأنبياء، فلما رأوا ذلك أقروا بالذنوب حين لم ينفعهم‏.‏ ‏{‏قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ‏}‏‏.‏ ‏{‏فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ‏}‏ أي تلك الكلمة وهي قولهم يا ويلنا، دعاؤهم يدعون بها ويرددونها‏.‏

‏{‏حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا‏}‏ بالسيوف كما يحصد الزرع، ‏{‏خَامِدِينَ‏}‏ ميتين‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ‏}‏ أي عبثا وباطلا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 20‏]‏

‏{‏لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏17‏)‏ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ‏(‏19‏)‏ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا‏}‏ اختلفوا في اللهو، قال ابن عباس في رواية عطاء‏:‏ اللهو المرأة، وهو قول الحسن وقتادة، وقال في رواية الكلبي‏:‏ اللهو الولد، وهو قول السدي، وهو في المرأة أظهر لأن الوطء يسمى لهوا في اللغة، والمرأة محل الوطء ‏{‏لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا‏}‏ أي من عندنا من الحور العين لا من عندكم من أهل الأرض‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لو كان جائزا ذلك في صفته لم يتخذه بحيث يظهر لهم ويستر ذلك حتى لا يطلعوا عليه‏.‏

وتأويل الآية أن النصارى لما قالوا في المسيح وأمه ما قالوا رد الله عليهم بهذا وقال‏:‏ ‏{‏لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا‏}‏ لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده، لا عند غيره ‏{‏إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ‏}‏ قال قتادة ومقاتل وابن جريج‏:‏ ‏{‏إِنْ‏}‏ للنفي، أي‏:‏ ما كنا فاعلين‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ‏}‏ للشرط أي إن كنا ممن يفعل ذلك لاتخذناه من لدنا، ولكنا لم نفعله لأنه لا يليق بالربوبية‏.‏ ‏{‏بَلْ‏}‏ أي دع ذلك الذي قالوا فإنه كذب وباطل، ‏{‏نَقْذِفُ‏}‏ نرمي ونسلط، ‏{‏بِالْحَقِّ‏}‏ بالإيمان، ‏{‏عَلَى الْبَاطِلِ‏}‏ على الكفر، وقيل‏:‏ الحق قول الله، أنه لا ولد له، والباطل قولهم اتخذ الله ولدا، ‏{‏فَيَدْمَغُهُ‏}‏ فيهلكه، وأصل الدمغ‏:‏ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، ‏{‏فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ‏}‏ ذاهب، والمعنى‏:‏ أنا نبطل كذبهم بما نبين من الحق حتى يضمحل ويذهب، ثم أوعدهم على كذبهم فقال‏:‏ ‏{‏وَلَكُمُ الْوَيْلُ‏}‏ يا معشر الكفار، ‏{‏مِمَّا تَصِفُونَ‏}‏ الله بما لا يليق به من الصاحبة والولد‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ مما تكذبون‏.‏ ‏{‏وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ‏}‏ عبيدا وملكا، ‏{‏وَمَنْ عِنْدَهُ‏}‏ يعني الملائكة، ‏{‏لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ‏}‏ لا يأنفون عن عبادته ولا يتعظمون عنها، ‏{‏وَلا يَسْتَحْسِرُونَ‏}‏ لا يعيون، يقال‏:‏ حسر واستحسر إذا تعب وأعيا‏.‏ وقال السدي‏:‏ لا يتعظمون عن العبادة‏.‏ ‏{‏يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ‏}‏ لا يضعفون ولا يسأمون، قال كعب الأحبار‏:‏ التسبيح لهم كالنفس لبني آدم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ‏(‏21‏)‏ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏22‏)‏ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ‏(‏23‏)‏ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً‏}‏ استفهام بمعنى الجحد، أي لم يتخذوا، ‏{‏مِنَ الأرْضِ‏}‏ يعني الأصنام من الخشب والحجارة، وهما من الأرض، ‏{‏هُمْ يُنْشِرُونَ‏}‏ يحيون الأموات، ولا يستحق الإلهية إلا من يقدر على الإحياء والإيجاد من العدم والإنعام بأبلغ وجوه النعم‏.‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا‏}‏ أي في السماء والأرض، ‏{‏آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ‏}‏ أي غير الله ‏{‏لَفَسَدَتَا‏}‏ لخربتا وهلك من فيهما بوجود التمانع بين الآلهة لأن كل أمر صدر عن اثنين فأكثر لم يجر على النظام، ثم نزه نفسه فقال‏:‏ ‏{‏فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ أي عما يصفه به المشركون من الشريك والولد‏.‏ ‏{‏لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ‏}‏ ويحكم على خلقه لأنه الرب ‏{‏وَهُمْ يُسْأَلُونَ‏}‏ أي الخلق يسألون، عن أفعالهم وأعمالهم لأنهم عبيد ‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً‏}‏ استفهام إنكار وتوبيخ، ‏{‏قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ‏}‏ أي حجتكم على ذلك، ثم قال مستأنفا، ‏{‏هَذَا‏}‏ يعني القرآن‏.‏ ‏{‏ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ‏}‏ فيه خبر من معي على ديني ومن يتبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية‏.‏ ‏{‏وَذِكْرُ‏}‏ خبر، ‏{‏مَنْ قَبْلِي‏}‏ من الأمم السالفة ما فعل بهم في الدنيا وما يفعل بهم في الآخرة‏.‏ وعن ابن عباس في رواية عطاء‏:‏ ذكر من معي‏:‏ القرآن، وذكر من قبلي‏:‏ التوراة والإنجيل، ومعناه‏:‏ راجعوا القرآن والتوراة والإنجيل وسائر الكتب هل تجدون فيها أن الله اتخذ ولدا، ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 29‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ‏(‏25‏)‏ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ‏(‏26‏)‏ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ‏(‏28‏)‏ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم نوحي إليه بالنون وكسر الحاء على التعظيم، لقوله ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا‏}‏ وقرأ الآخرون بالياء وفتح الحاء على الفعل المجهول، ‏{‏أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ وحدون‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا‏}‏ نزلت في خزاعة حيث قالوا‏:‏ الملائكة بنات الله، ‏{‏سُبْحَانَهُ‏}‏ نزه نفسه عما قالوا، ‏{‏بَلْ عِبَادٌ‏}‏ أي هم عباد، يعني الملائكة، ‏{‏مُكْرَمُونَ‏}‏ ‏{‏لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ‏}‏ لا يتقدمونه بالقول ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم به، ‏{‏وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏}‏ معناه أنهم لا يخالفونه قولا ولا عملا‏.‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ أي ما عملوا وما هم عاملون‏.‏ وقيل‏:‏ ما كان قبل خلقهم وما يكون بعد خلقهم ‏{‏وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي لمن قال لا إله إلا الله، وقال مجاهد‏:‏ أي لمن رضي عنه ‏{‏وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ‏}‏ خائفون لا يأمنون مكره‏.‏ ‏{‏وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ‏}‏ قال قتادة‏:‏ عنى به إبليس حين دعا إلى عبادة نفسه وأمر بطاعة نفسه، فإن أحدا من الملائكة لم يقل إني إله من دون الله ‏{‏فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ‏}‏ الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ‏(‏30‏)‏ وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ قرأ ابن كثير ‏"‏ لم ير ‏"‏ بغير واو وكذلك هو في مصاحفهم، معناه‏:‏ ألم يعلم الذين كفروا، ‏{‏أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما وعطاء وقتادة‏:‏ كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ‏{‏فَفَتَقْنَاهُمَا‏}‏ فصلنا بينهما بالهواء، والرتق في اللغة‏:‏ السد، والفتق‏:‏ الشق‏.‏

قال كعب‏:‏ خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض، ثم خلق ريحا فوسطها ففتحها بها‏.‏

قال مجاهد والسدي‏:‏ كانت السموات مرتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرض كانتا مرتقة طبقة واحدة فجعلها سبع أرضين‏.‏

قال عكرمة وعطية‏:‏ كانت السماء رتقا لا تمطر والأرض رتقا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات‏.‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏رَتْقًا‏}‏ على التوحيد وهو من نعت السموات والأرض لأنه مصدر وضع موضع الاسم، مثل الزور والصوم ونحوهما‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا‏}‏ وخلقنا ‏{‏مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ‏}‏ أي‏:‏ وأحيينا بالماء الذي ينزل من السماء كل شيء حي أي من الحيوان ويدخل فيه النبات والشجر، يعني أنه سبب لحياة كل شيء والمفسرون يقولون‏:‏ يعني أن كل شيء حي فهو مخلوق من الماء‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله خلق كل دابة من ماء‏}‏ ‏(‏النور‏:‏ 45‏)‏، قال أبو العالية‏:‏ يعني النطفة، فإن قيل‏:‏ قد خلق الله بعض ما هو حي من غير الماء‏؟‏ قيل‏:‏ هذا على وجه التكثير، يعني أن أكثر الأحياء في الأرض مخلوقة من الماء أو بقاؤه بالماء، ‏{‏أَفَلا يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ‏}‏ جبالا ثوابت، ‏{‏أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ‏}‏؛ يعني كي لا تميد بهم ‏{‏وَجَعَلْنَا فِيهَا‏}‏ في الرواسي‏:‏ ‏{‏فِجَاجًا‏}‏ طرقا ومسالك، والفج‏:‏ الطريق الواسع بين الجبلين، أي جعلنا بين الجبال طرقا حتى يهتدوا إلى مقاصدهم، ‏{‏سُبُلا‏}‏ تفسير للفجاج، ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 33‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏32‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا‏}‏ من أن تسقط، دليله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه‏}‏ ‏(‏الحج‏:‏ 65‏)‏، وقيل‏:‏ محفوظا من الشياطين بالشهب، دليله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحفظناها من كل شيطان رجيم‏}‏ ‏(‏الحجر‏:‏ 17‏)‏، ‏{‏وَهُمْ‏}‏ يعني الكفار، ‏{‏عَنْ آيَاتِهَا‏}‏ ما خلق الله فيها من الشمس والقمر والنجوم وغيرها، ‏{‏مُعْرِضُونَ‏}‏ لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء، وإنما قال‏:‏ ‏{‏يَسْبَحُونَ‏}‏ ولم يقل يسبح على ما يقال لما لا يعقل، لأنه ذكر عنها فعل العقلاء من الجري والسبح، فذكر على ما يعقل‏.‏

والفلك‏:‏ مدار النجوم الذي يضمها، والفلك في كلام العرب‏:‏ كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك، ومنه فلك المغزل‏.‏

وقال الحسن‏:‏ الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل‏:‏ يريد أن الذي يجري فيه النجوم مستدير كاستدارة الطاحونة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الفلك السماء الذي فيه ذلك الكوكب، فكل كوكب يجري في السماء الذي قدر فيه، وهو معنى قول قتادة‏.‏

وقال الكلبي الفلك استدارة السماء‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الفلك موج مكفوف دون السماء يجري فيه الشمس والقمر والنجوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 37‏]‏

‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ‏(‏34‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ‏(‏35‏)‏ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏36‏)‏ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ‏(‏37‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ‏}‏ دوام البقاء في الدنيا، ‏{‏أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ‏}‏ أي أفهم الخالدون إن مت‏؟‏ نزلت هذه الآية حين قالوا نتربص بمحمد ريب المنون‏.‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ‏}‏ نختبركم ‏{‏بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ‏}‏ بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، وقيل‏:‏ بما تحبون وما تكرهون، ‏{‏فِتْنَةً‏}‏ ابتلاء لننظر كيف شكركم فيما تحبون، وصبركم فيما تكرهون، ‏{‏وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏{‏وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ‏}‏ ما يتخذونك ‏{‏إِلا هُزُوًا‏}‏ سخريا قال السدي‏:‏ نزلت في أبي جهل مر به النبي صلى الله عليه وسلم فضحك، وقال‏:‏ هذا نبي بني عبد مناف ‏{‏أَهَذَا الَّذِي‏}‏ أي يقول بعضهم لبعض أهذا الذي، ‏{‏يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ‏}‏ أي يعيبها، يقال‏:‏ فلان يذكر فلانا أي يعيبه، وفلان يذكر الله أي يعظمه ويجله، ‏{‏وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ‏}‏ وذلك أنهم كانوا يقولون لا نعرف الرحمن إلا مسيلمة، ‏{‏وَهُمْ‏}‏ الثانية صلة‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ‏}‏ اختلفوا فيه، فقال قوم‏:‏ معناه أن بنيته وخلقته من العجلة وعليها طبع، كما قال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا‏}‏ ‏(‏الإسراء‏:‏ 11‏)‏‏.‏

قال سعيد بن جبير والسدي‏:‏ لما دخلت الروح في رأس آدم وعينه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخلت جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلا إلى ثمار الجنة، فوقع فقيل‏:‏ ‏"‏خلق الإنسان من عجل‏"‏، والمراد بالإنسان آدم وأورث أولاده العجلة، والعرب تقول للذي يكثر منه الشيء‏:‏ خلقت منه، كما تقول العرب‏:‏ خلقت في لعب، وخلقت من غضب، يراد المبالغة في وصفه بذلك، يدل على هذا قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وكان الإنسان عجولا‏"‏‏.‏

وقال قوم‏:‏ معناه خلق الإنسان يعني آدم من تعجيل في خلق الله إياه، لأن خلقه كان بعد خلق كل شيء في آخر النهار يوم الجمعة، فأسرع في خلقه قبل مغيب الشمس‏.‏

قال مجاهد‏:‏ فلما أحيا الروح رأسه قال يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس‏.‏ وقيل‏:‏ بسرعة وتعجيل على غير ترتيب خلق سائر الآدميين من النطفة والعلقة والمضغة وغيرها‏.‏

وقال قوم‏:‏ من عجل، أي‏:‏ من طين، قال الشاعر‏:‏

والنبع في الصخرة الصماء منبتة *** والنخل ينبت بين الماء والعجل

‏{‏سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ‏}‏ نزل هذا في المشركين كانوا يستعجلون العذاب ويقولون‏:‏ أمطر علينا حجارة من السماء، وقيل‏:‏ نزلت في النضر بن الحارث فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سَأُرِيكُمْ آيَاتِي‏}‏ أي مواعيدي فلا تستعجلون، أي فلا تطلبوا العذاب من قبل وقته، فأراهم يوم بدر، وقيل‏:‏ كانوا يستعجلون القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏38‏)‏ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ‏}‏ لا يدفعون ‏{‏عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ‏}‏ قيل‏:‏ ولا عن ظهورهم السياط، ‏{‏وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ‏}‏ يمنعون من العذاب، وجواب لو في قوله‏:‏ ‏{‏لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ‏}‏ محذوف معناه‏:‏ ولو علموا لما أقاموا على كفرهم، ولما استعجلوا، ولا قالوا‏:‏ متى هذا الوعد‏؟‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 44‏]‏

‏{‏بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏40‏)‏ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏41‏)‏ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏42‏)‏ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ‏(‏43‏)‏ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏بَلْ تَأْتِيهِمْ‏}‏ يعني الساعة ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ فجأة، ‏{‏فَتَبْهَتُهُمْ‏}‏ أي تحيرهم، يقال‏:‏ فلان مبهوت أي متحير، ‏{‏فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ‏}‏ يمهلون‏.‏ ‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ‏}‏ نزل، ‏{‏بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏ أي جزاء استهزائهم‏.‏ ‏{‏قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ‏}‏ يحفظكم، ‏{‏بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ‏}‏ إن أنزل بكم عذابه، وقال ابن عباس‏:‏ من يمنعكم من عذاب الرحمن، ‏{‏بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ‏}‏ عن القرآن ومواعظ الله، ‏{‏مُعْرِضُونَ‏}‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ‏}‏ أم‏:‏ صلة فيه، وفي أمثاله ‏{‏آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا‏}‏ فيه تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم، ثم وصف الآلهة بالضعف، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ منع أنفسهم، فكيف ينصرون عابديهم، ‏{‏وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يمنعون‏.‏ وقال عطية‏:‏ عنه يجارون، تقول العرب‏:‏ أنا لك جار وصاحب من فلان، أي مجير منه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ينصرون‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ولا يصبحون من الله بخير‏.‏ ‏{‏بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ‏}‏ الكفار، ‏{‏وَآبَاءَهُمْ‏}‏ في الدنيا أي أمهلناهم‏.‏ وقيل‏:‏ أعطيناهم النعمة، ‏{‏حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ‏}‏ أي امتد بهم الزمان فاغتروا‏.‏

‏{‏أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا‏}‏ يعني ما ننقص من أطراف المشركين ونزيد

في أطراف المؤمنين، يريد ظهور النبي صلى الله عليه وسلم وفتحه ديار الشرك أرضا فأرضا، ‏{‏أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏ أم نحن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ‏(‏45‏)‏ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏46‏)‏ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ‏}‏ أي أخوفكم بالقرآن، ‏{‏وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ‏}‏ قرأ ابن عامر بالتاء وضمها وكسر الميم، ‏"‏الصم‏"‏ نصب، جعل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ الآخرون بالياء وفتحها وفتح الميم، ‏"‏الصم‏"‏ رفع، ‏{‏إِذَا مَا يُنْذَرُونَ‏}‏ يخوفون‏.‏ ‏{‏وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ‏}‏ أصابتهم ‏{‏نَفْحَةٌ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما طرف‏.‏ وقيل‏:‏ قليل‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ نصيب، من قولهم نفح فلان لفلان من ماله أي أعطاه حظا منه‏.‏ وقيل‏:‏ ضربة من قولهم نفحت الدابة برجلها إذا ضربت، ‏{‏مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ‏}‏ أي بإهلاكنا إنا كنا مشركين، دعوا على أنفسهم بالويل بعدما أقروا بالشرك‏.‏ ‏{‏وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ‏}‏ أي ذوات القسط، والقسط‏:‏ العدل، ‏{‏لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا‏}‏ لا ينقص من ثواب حسناته ولا يزاد على سيئاته، وفي الأخبار‏:‏ إن الميزان له لسان وكفتان‏.‏

روى أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان فأراه كل كفة ما بين المشرق والمغرب، فغشي عليه، ثم أفاق فقال‏:‏ يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات‏؟‏ فقال‏:‏ يا داود إني إذا رضيت على عبدي ملأتها بتمرة‏.‏

‏{‏وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ‏}‏ قرأ أهل المدينة ‏{‏مِثْقَالَ‏}‏ برفع اللام هاهنا وفي سورة لقمان، أي وإن وقع مثقال حبة، ونصبها الآخرون على معنى‏:‏ وإن كان ذلك الشيء مثقال حبة أي زنة حبة من خردل، ‏{‏أَتَيْنَا بِهَا‏}‏ أحضرناها لنجازي بها‏.‏

‏{‏وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ‏}‏ قال السدي‏:‏ محصين، والحسب معناه‏:‏ العد، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ عالمين حافظين، لأن من حسب شيئا علمه وحفظه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 51‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏48‏)‏ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ‏(‏49‏)‏ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏50‏)‏ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ‏}‏ يعني الكتاب المفرق بين الحق والباطل، وهو التوراة‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الفرقان النصر على الأعداء، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان‏}‏ ‏(‏الأنفال‏:‏ 41‏)‏، يعني يوم بدر، لأنه قال ‏{‏وَضِيَاءً‏}‏ أدخل الواو فيه أي آتينا موسى النصر والضياء وهو التوراة‏.‏

ومن قال‏:‏ المراد بالفرقان التوراة، قال‏:‏ الواو في قوله‏:‏ ‏{‏وَضِيَاءً‏}‏ زائدة مقحمة، معناه‏:‏ آتيناه التوراة ضياء، وقيل‏:‏ هو صفة أخرى للتوراة، ‏{‏وَذِكْرًا‏}‏ تذكيرا، ‏{‏لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏{‏الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ‏}‏ أي يخافونه ولم يروه، ‏{‏وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ‏}‏ خائفون‏.‏ ‏{‏وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزلْنَاهُ‏}‏ يعني القرآن وهو ذكر لمن تذكر به، مبارك يتبرك به ويطلب منه الخير، ‏{‏أَفَأَنْتُم‏}‏ يا أهل مكة، ‏{‏لَهُ مُنْكِرُونَ‏}‏ جاحدون وهذا استفهام توبيخ وتعبير‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ‏}‏ قال القرطبي‏:‏ أي صلاحه، ‏{‏مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي من قبل موسى وهارون، وقال المفسرون‏:‏ رشده، أي هداه من قبل أي من قبل البلوغ، وهو حين خرج من السرب وهو صغير، يريد هديناه صغيرا كما قال تعالى ليحيى عليه السلام‏:‏ ‏{‏وآتيناه الحكم صبيا‏}‏ ‏(‏مريم‏:‏ 12‏)‏، ‏{‏وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ‏}‏ أنه أهل للهداية والنبوة‏.‏